منوعات

«جريدة الكلب» لسان أوجع السلطات السورية… قطعته ذاكرة النسيان/ أحمد عبد الحميد

اكتسبت السخرية اللاذعة في عالمنا العربي اهتمامًا ملاحظاً خاصةً أنها تخطت حاجز الهجاء. إذ تحولت إلى لسانٍ موجعٍ في وجه الطغيان والظلم والفساد ومرارة الحياة. وبما أنها كانت تصل لشريحة أوسع من الناس لما لها من تأثيرٍ فطري ينتقل تلقائياً كالعدوى، وينتشر انتشار النار في الهشيم فإنها انتهت عند نقد الحكومات برجالاتها وسياساتها، عندما وجدت ما يخالف مصالح الشعب ويعارض تطلعاته.

تناول الشعر الساخر كثيراً من صفحات أدبنا العربي، وبرع فيه شعراء كانت السخرية مذهبهم، في محاولة لإحداث تغيير ضمن مجتمعاتهم: كبشار بن برد، وأبو الشمقمق، وابن وكيع، وابن الرومي وغيرهم… فمن ساخر من بخيل رآه شراً على المجتمع إلى ناقدٍ الحياة بقسوتها، مروراً بمستهزئ من حاله الفقير، وصولاً إلى محتجٍ على تجّار الدين والسياسة، كمحمود الوراق حيث يقول:

أظهروا للناس ديناً

وعلى الدنيا داروا

وله صاموا وصلوا

وله حجوا وزاروا

ولو بدا فوق الثريا

ولهم رئيس لطاروا

وانطلاقاً من اعتماد هذه المنهجية السائدة، برزت عدة صحفٍ ومجلاتٍ عربيةٍ في تاريخنا المعاصر تنشر هذا اللون الساخر وبدرجاته المختلفة، مُقدِّمةً تجارب شعرية ساخرة ناقدة، لعل أبرزها «جريدة الكلب» التي أسسها صدقي إسماعيل أوائل خمسينيات القرن المنصرم إبّان انقلاب الزعيم السوري حسني الزعيم، الذي وضع الصحافة والأدب تحت بسطاره من اليوم الأول من انقلابه. تجاهلت «جريدة الكلب» جميع القوانين والأنظمة والتراخيص، وعلّل صاحبها إسماعيل تسمية الجريدة الساخرة بهذا الاسم:

«إن الكلب هو الكائن الوحيد الذي يحق له النباح بدون أن يلزمه أحد بشيء»

في إشارة إلى فترةٍ معروفةٍ ساد فيها القمع، وباتت الرقابة كابوساً يخيّم على العمل الصحافي. لم تعرف هذه الجريدة الطباعة فقلّما مرّت تحت الآلة الكاتبة لينحى فيها إسماعيل منحًى مختلفاً انطلاقاً من كتابتها بخط يده في طبعةٍ واحدةٍ وتداولها بين الرفاق، ولعل منهم من يقوم بنسخها وتوزيعها إعجاباً بما احتوت، رافضاً أن تكون في خانة جرائد الديكور التي تمسح غبار مرآة السلطة. كان طابعها الأساسي أن تعالج الموضوعات والمشاكل الاجتماعية والسياسية والفنية وغيرها، معالجة ساخرة طريفة، وهو أمرٌ في غاية التعقيد؛ لكنه ومع إتمام إنجازه لا يدل إلا على موهبةٍ وخبرةٍ عميقةٍ امتاز بها صاحبها، خاصة أنها بتناولها المواضيع بسخريةٍ نقديةٍ اعتمدت على الشعر بوزنٍ وقافيةٍ ذلك ما ميّزها عن غيرها، وما أحدث ثورة غريبة جديدة في عالم الصحافة وحرية التعبير؛ أضف إلى ذلك تمتع إسماعيل وفريقه بثقافةٍ عاليةٍ وتهكمٍ فريدٍ وتعليقاتٍ عميقةٍ، في زوايا متنوعة بأسلوب التعريض الخفيف وتصويب الأخطاء، دونما تجريحٍ أو تصريحٍ خادش، ومنه سخريته من منصور الرحباني، الذي كان مراسلاً للجريدة في بيروت، حيث يُذكر أنه تأخر كثيراً في إرسال المواد الصحافية، تاركاً إسماعيل على صفيح انتظارٍ ملتهبٍ، ليتأخر في إصدار العدد، فعاتبه ممازحاً عتابًا يظهر قدرة إسماعيل على تطويع المعنى، وجذب القارئ نحو مشروعه:

إلى مراسلنا في أرض لبنان

وعضو أسرتنا منصور الرحباني جريدة الكلب في الفيحاء عاتبة

على تقاعسكم قد مرّ يومان وصوتكم عندكم حرٌ فكل فمٍ

يعوي كما شاء (روسي أو أمركاني) نوّر صحيفتك الغرّاء واحكِ لنا

عن السياسة جواني وبراني

وإن مررت بفيروز قصيدتنا فانبح عليها سلام الكلب روحاني

لم تكن هذه المقطوعة إلا جزءاً من مواضيع كثيرةٍ جداً في أغلبها سياسية وهو ميدان «الكلب» إذ توجهت الجريدة نحو تعرية الأحداث، وتقديمها إلى الجمهور؛ لتعبّر بلسانهم عما يجول في خاطرهم خلال تلك الحقبة من خمسينيات وستينيات القرن المنصرم، مع ما حملته من انقلاباتٍ وتطوراتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ غزيرة. مُغلّفة إياها روح التمرد والثورة والتطلع نحو التغيير. لقد تميزت «جريدة الكلب» بأنها ظاهرةٌ أدبيةٌ لافتةٌ في عالم الصحافة العربية، إذ استطاعت أن تقدّم وجباتٍ دسمةً لقارئيها تفوّقت فيها ببساطتها على الصحافة الجديّة والمجلات الأخرى التي لم تعمّر طويلا لأسبابٍ كثيرةٍ أهمها «التضييق الأمني» في وقتٍ كان فيه الجمود والشللية عنوان فترة الانتداب وما بعده. لم تكن «جريدة الكلب» جريدةً بالمعنى الحرفي لمصطلح جريدة، حيث أنها لم تطبع إلا مرةً واحدةً عام 1969.

أي بعد (عشرين عاماً) على صدورها، ولم تكن تصدر بشكلٍ منتظمٍ؛ بل اعتمدت على الأحداث المهمة ليمسك إسماعيل قلمه ويبدأ بعددٍ جديد، ولعل هذا السبب هو ما أدى إلى ضياع كثيرٍ من أعدادها، خاصةً أنها كانت تكتب بنسخةً واحدةً وتنتقل محدودة التوزيع ما بين الأصدقاء وهكذا من إلى..

ومع أن «جريدة الكلب» موسوعةٌ نسيج وحدها، وبقيت عموداً شامخاً وسط أطلال التعبير وحرية الرأي التي دمرتها أنظمة الحكم، إلا أنها ماتت يتيمة لم تُكتب لها نعوة الذكرى، ولم تتناولها الجرائد ولا الإعلام رغم ما حوته من مجموعاتٍ شعريةٍ هزليةٍ خلال ربع قرن من التحذير والتقريع والتصويب والتحريض والبحث عن حرية الشعوب. ومن المضحك المبكي هو تجاوز مواضيعها حاجزاً تنويرياً، ولكن ضمن مضمار السخرية، من خلال تحذيرها قارئيها من أفلامٍ كانت بطرحها دعائيةً، هدفها توجيه الرأي العام وغسل العقول، لما تتجه نحوه بوصلات السلطة العميقة. فتحذّر الجريدة بأسلوبها على سبيل المثال:

ستعرض سينما «دنيا»

قريباً فيلم «جنكيز خان»

وفيه دعاية حتماً

لـ»تركيا» فكن يقظان

وفي باب النقد أيضًا تناولت فيلم «سجن النساء» مُحذِّرة من حضوره:

سجن النساء بسينما

«دنيا» فحاذر أن تراه

وإن دعاك إليه بعض

الأصدقاء فقل: «بلاه»

لم تنم «جريدة الكلب» إلا مرةً واحدةً تحت الآلة الكاتبة خلال سنوات صدورها، وهي ورقةٌ من أربع صفحات من الإعلان والخبر والتعليق السياسي، يمدُّها بالمواد جمهرة من نخب الأدب والإعلام: كمنصور الرحباني، وغازي أبو عقل، وعبد السلام العجيلي ورفيق الدرب صاحب الإنجاز الأبرز في الصحيفة سليمان العيسى. كانت تستعار وتعار ينتظرها عشاقها على أحرّ من الجمر حتى يتذوقوا فيها نكهة الصحافة ولبّ السخرية الجذابة، للاطلاع على مواضيعها وأخبارها رغم مرضِ شِعرها؛ لأنه ابن ساعته وفواتِ مناسبة نقدها لكثيرٍ من المواضيع. لم تحصل «جريدة الكلب» على الترخيص لإصدارها، وكانت تصدر بلا موعد وما كان ينقصها عمليّاً إلا الجمهور القارئ، وتنظيم موعد الإصدار والنشر مقارنة بإصدارات غيرها كمّاً، فلا يطالعها إلا الأصدقاء والدائرة الضيقة لصانعها، ورغم تلك الظروف فرضت نفسها على الصحافة العربية، وخلعت عنها ملامح الجديّة المملّة، وأعطت هذه الصحيفة للشعر طرحاً جديداً في زمن فُرضت فيه المركزية السياسية والصرامة الأمنية والاحتكار الحكومي للإعلام، وهو ما أشار إليه إسماعيل لمجلة «الأسبوع العربي» البيروتية عام 1963 في حديثٍ أجراه معه زهير مارديني: «أصدرتُ الجريدة.. رأيت أول ديكتاتورية تقام على رؤوسنا، لقد شعرت بالاشمئزاز من التصرفات المجنونة والمزيج العجيب من القسوة المتناهية، كان لا بدّ من عمل شيء لكشف هذه المتناقصات وردّ الشباب إلى حقيقتهم». أما المفاجأة الكبرى حيث نشرت «الهلال القاهرية» مقالة بدون توقيع، عنوانها: «الكلب أطرف مجلة فكاهية عربية» وذلك في يونيو/حزيران 1977 استعان كاتب تلك المقالة بالعدد الوحيد المطبوع منها.

لقد شهدت مقاهي دمشق الشعبية ولادة «جريدة الكلب» وشهد مقهى «الهافانا» ومقهى «الروضة» ومقهى «الجسر الأبيض» على بساطة إسماعيل وعبقريته في تحرير أسطرها، فكان لها أن تخرج من بين أحياء البسطاء وزوايا العهد الجديد، وتحيي قرابة ربع قرن، ولو قلّت أعدادها مقارنة بغيرها، وضاع كثير من صفحاتها بعد وفاة إسماعيل، إلا أنه أُريد لـ15 عدداً الحياة مجدداً، كانت محفوظةً عند زوجته بعد أن عزمت الجهات الرسمية على جمع تراث الجريدة بمشاركة الشاعر سليمان العيسى، الذي استطاع جمع 150عدداً إضافياً في مجلد ضخم؛ ليعيش هذا الحصان الأسود في مضمار الحقيقة العارية، ويؤرّخ للكتلة الصامتة أحداث حقبةّ زمنيةٍ في بلدٍ أقل ما يقال عنه «بلد الانقلابات».

كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى